فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}.
هَذِهِ الْآيَاتُ تَتِمَّةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ آيَاتِ التَّوْحِيدِ مُقَرِّرَةٌ وَمُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِهَا؛ لِأَنَّ تَوْحِيدَ الْعِبَادَةِ وَنَفْيَ الشِّرْكِ فِيهَا هُوَ أُسُّ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَتَقَرَّرُ فِي الْأَذْهَانِ، وَيَثْبُتُ فِي الْجِنَانِ، وَيَكْمُلُ بِالْوِجْدَانِ، إِلَّا بِتَكْرَارِ الْآيَاتِ فِيهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا لِمَضْمُونِ كَلِمَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ، وَرُكْنُهَا الْأَعْظَمُ، فَلَا يَصِحُّ تَوْحِيدُ أَحَدٍ لِلَّهِ إِلَّا بِدُعَائِهِ وَحْدَهُ، وَعَدَمِ دُعَاءِ أَحَدٍ مَعَهُ. كَمَا قَالَ: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا} (72: 18) وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ الدُّعَاءَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعْنَاهُ الْعِبَادَةُ، مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْكُلِّ بِاسْمِ الْجُزْءِ، فَصَارُوا يُفَسِّرُونَ {تَدْعُونَ} يَتَعَبَّدُونَ، فَضَلَّ بَعْضُ الْعَوَامِّ مِنَ الْقَارِئِينَ وَغَيْرِهِمْ فِي هَذَا التَّعْبِيرِ، وَظَنُّوا أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَكُونُ عَابِدًا لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى إِلَّا إِذَا كَانَ يُصَلِّي لَهُ الصَّلَاةَ الْمَعْرُوفَةَ وَيَصُومُ لِأَجْلِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي تَوْحِيدَ اللهِ تَعَالَى أَنْ يُدْعَى غَيْرُهُ مَعَهُ، أَوْ يُدْعَى مِنْ دُونِهِ بِقَصْدِ التَّوَسُّلِ إِلَيْهِ وَالِاسْتِشْفَاعِ لَدَيْهِ، إِذَا كَانَ لَا يُصَلِّي وَلَا يَصُومُ لَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الدُّعَاءَ هُنَا بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ، فَيَكُونُ الْإِنْكَارُ فِيهِ خَاصًّا بِتَسْمِيَتِهِمْ لِأَصْنَامِهِمْ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مَعْبُودَاتِهِمْ آلِهَةً، وَكُلٌّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الِاحْتِمَالَاتِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا مَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ جَاهِلًا بِمَعْنَى الشِّرْكِ، مِمَّنْ يَدْعُونَ الْمَوْتَى مِنَ الصَّالِحِينَ؛ لِدَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُمْ أَوْ جَلْبِ الْخَيْرِ لَهُمْ، مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ مِنْ تَنَاوُلِ كَسْبِهِمْ وَسَعْيِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَهُمْ آلِهَةً، وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ الَّذِي نُعِيَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، لَا مُجَرَّدَ التَّسْمِيَةِ الَّتِي لَا تَكُونُ بِدُونِهِ صَحِيحَةً.
وَالْحُقُّ الَّذِي لَا مَعْدِلَ عَنْهُ أَنَّ الدُّعَاءَ هُنَا هُوَ النِّدَاءُ لِدَفْعِ الضُّرِّ أَوْ جَلْبِ النَّفْعِ، الْمُوَجَّهُ إِلَى مَنْ يَعْتَقِدُ الدَّاعِي أَنَّ لَهُ سُلْطَانًا يُمْكِنُهُ بِهِ أَنْ يُجِيبَهُ إِلَى مَا طَلَبَهُ بِذَاتِهِ، أَوْ بِحَمْلِهِ لِلرَّبِّ الْخَالِقِ عَلَى ذَلِكَ، بِحَيْثُ يُجِيبُ دُعَاءَ الدَّاعِي لِأَجْلِهِ.
يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ هُمْ عِبَادُ اللهِ أَمْثَالُكُمْ فِي كَوْنِهِمْ مَخْلُوقِينَ لِلَّهِ تَعَالَى خَاضِعِينَ لِسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَإِذَا كَانُوا أَمْثَالَكُمُ امْتُنِعَ عَقْلًا أَنْ تَطْلُبُوا مِنْهُمْ مَا لَا تَسْتَطِيعُونَ نَيْلَهُ بِأَنْفُسِكُمْ، وَلَا بِمُسَاعَدَةِ أَمْثَالِكُمْ لَكُمْ فِيمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّعَاوُنِ فِي اتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ لَهُ، وَإِنَّمَا يُدْعَى لِمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ، الرَّبُّ الْخَالِقُ الْمُسَخِّرُ لِلْأَسْبَابِ، الَّذِي تَخْضَعُ لِإِرَادَتِهِ الْأَسْبَابُ وَهُوَ لَا يَخْضَعُ لَهَا، وَلَا لِإِرَادَةِ أَحَدٍ يَحْمِلُهُ عَلَى مَا لَا يَشَاؤُهُ مِنْهَا.
وَهَذِهِ الْمُمَاثَلَةُ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِيمَنْ يُدْعَى مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْأَنْبِيَاءِ أَوِ الصُّلَحَاءِ، دُونَ مَا اتُّخِذَ لَهُمْ تَذْكِيرًا بِهِمْ مِنَ التَّمَاثِيلِ أَوِ الْقُبُورِ أَوِ الْأَصْنَامِ، وَقَدْ صَارَ بَعْضُ هَذِهِ الْمُذَكِّرَاتِ يُقْصَدُ لِذَاتِهِ، جَهْلًا بِمَا كَانَتِ اتُّخِذَتْ لِأَجْلِهِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَدْخُلُ فِي الْمُمَاثَلَةِ بِطَرِيقَةِ تَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ مَا وُضِعَتْ لِأَجْلِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ قُصَارَى أَمْرِهَا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْأَحْيَاءِ الْعُقَلَاءِ أَمْثَالِكُمْ، فَكَيْفَ تَرْفَعُونَهَا عَنْ هَذِهِ الْمِثْلِيَّةِ، إِلَى مَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ؟!.
{فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي زَعْمِكُمْ أَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى مَا لَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ بِقُوَاكُمُ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ نَفْعٍ أَوْ ضُرٍّ بِذَوَاتِهِمْ، {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} بِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ لِيَحْمِلُوا الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى إِعْطَائِكُمْ مَا تَطْلُبُونَ مِنْهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي قَوْلِكُمْ: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ} (10: 18) وَقَوْلِكُمْ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} (39: 3) ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْهُمْ لَا أَمْثَالًا لَهُمْ، فَقَالَ: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ هَذَا تَقْرِيعٌ مُوَجَّهٌ إِلَى الْوِجْدَانِ، فِي إِثْرِ احْتِجَاجٍ وُجِّهَ قَبْلَهُ إِلَى الْجِنَانِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِيهِ لِلْإِنْكَارِ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لِفَقْدِهِمْ لِجَوَارِحِ الْكَسْبِ، الَّتِي يُنَاطُ بِهَا فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ، قَدْ هَبَطُوا عَنْ دَرَجَةِ مُمَاثَلَتِكُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَلَيْسَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَسْعَوْنَ بِهَا إِلَى دَفْعِ ضُرٍّ أَوْ جَلْبِ نَفْعٍ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا فِيمَا تَرْجُونَ مِنْهُمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ تَخَافُونَ مِنْ شَرٍّ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا حَالَكُمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا أَقْوَالَكُمْ، وَيَعْرِفُونَ بِهَا مَطَالِبَكُمْ، فَأَنْتُمْ تَفْضُلُونَهُمْ فِي الصِّفَاتِ وَالْقُوَى الَّتِي أَوْدَعَهَا اللهُ فِي الْخَلْقِ، فَلِمَاذَا تَرْفَعُونَهُمْ عَنْ مُمَاثَلَتِكُمْ، وَهُمْ بِدَلِيلِ الْمُشَاهَدَةِ وَالِاخْتِبَارِ دُونَكُمْ، وَهَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تَسْتَكْبِرُونَ عَنْ قَبُولِ الْهُدَى وَالرَّشَادِ مِنَ الرَّسُولِ، وَتُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، فَيَقُولُ بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} (33، 34) أَفَتَأْبَوْنَ قَبُولَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ مِنْ مِثْلِكُمْ، وَقَدْ فَضَّلَهُ اللهُ بِالْعِلْمِ وَالْهُدَى عَلَيْكُمْ، وَهُوَ لَا يَسْتَذِلُّكُمْ بِادِّعَاءِ أَنَّهُ رَبُّكُمْ أَوْ إِلَهُكُمْ، ثُمَّ تَرْفَعُونَ مَا دُونَهُ وَدُونَكُمْ إِلَى مَقَامِ الْأُلُوهِيَّةِ، مَعَ انْحِطَاطِهِ وَتَسَفُّلِهِ عَنْ هَذِهِ الْمِثْلِيَّةِ؟!.
{قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمَرْزُوئِينَ بِعُقُولِهِمْ، الْمُحْتَقِرِينَ لِنِعَمِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، نَادُوا شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ اتَّخَذْتُمُوهُمْ أَوْلِيَاءَ، وَزَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُفَعَاءً، ثُمَّ تَعَاوَنُوا عَلَى كَيْدِي جَمِيعًا، وَأَجْمِعُوا مَكْرَكُمُ الْخَفِيَّ لِإِيقَاعِ الضُّرِّ بِي سَرِيعًا، فَلَا تُنْظِرُونَ، أَيْ لَا تُؤَخِّرُونِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، بَعْدَ إِحْكَامِ الْمَكْرِ الْكُبَّارِ. وَحِكْمَةُ مُطَالَبَتِهِمْ بِهَذَا أَنَّ الْعَقَائِدَ وَالتَّقَالِيدَ الْمَوْرُوثَةَ تَتَغَلْغَلُ فِي أَعْمَالِ الْوِجْدَانِ، حَتَّى يَتَضَاءَلَ دُونَهَا كُلُّ بُرْهَانٍ، وَيَظَلُّ صَاحِبُهَا مَعَ ظُهُورِ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِهَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ، وَتُقَرِّبُ مِنَ اللهِ وَتَشْفَعُ، فَطَالَبَهُمْ بِأَمْرٍ عَمَلِيٍّ يَسْتَلُّ هَذَا الْوَهْمَ مِنْ أَعْمَالِ قُلُوبِهِمْ، وَيَمْتَلِخُ الشُّعُورَ بِهِ مِنْ خَبَايَا صُدُورِهِمْ، وَهُوَ أَنْ يُنَادُوا هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءَ نِدَاءَ اسْتِغَاثَةٍ وَاسْتِنْجَادٍ لِإِبْطَالِ دَعْوَى الدَّاعِي إِلَى الْكُفْرِ بِهَا، وَإِثْبَاتِهِ الْعَجْزَ لَهَا، وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِيمَا يَنْسِبُونَ إِلَيْهَا مِنَ التَّأْثِيرِ الْبَاطِنِ، وَالتَّدْبِيرِ الْكَامِنِ، الَّذِي هُوَ عِنْدَهُمْ أَمْرٌ غَيْبِيٌّ، يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْكَيْدِ الْخَفِيِّ. فَإِنْ كَانَ لَهَا شَيْءٌ مَا مِنَ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ فِي أَنْفُسِهَا أَوْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى فَهَذَا وَقْتُ ظُهُورِهِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِإِبْطَالِ عِبَادَتِهَا وَتَعْظِيمِهَا، وَنَصْرِ عَابِدِيهَا وَمُعَظِّمِي شَأْنِهَا، فَمَتَى يَظْهَرُ وَيَنْتَفِعُونَ بِهِ؟ وَهُمْ مُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ، وَكُلُّ مَا يَرْجُونَهُ أَوْ يَخَافُونَهُ مِنْهَا فَهُوَ خَاصٌّ بِمَا يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ؟.
إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ هَذَا تَعْلِيلٌ لِجَزْمِهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا ذُكِرَ مِنْ عَجْزِ هَذِهِ الْمَعْبُودَاتِ، وَتَحْقِيرِ أَمْرِهَا وَأَمْرِ عَابِدِيهَا، عَلَى مَا كَانَ مِنْ ضَعْفِهِ بِمَكَّةَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ. يَقُولُ: إِنَّ نَاصِرِيِّ وَمُتَوَلِّي أَمْرِي هُوَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ عَلَيَّ هَذَا الْكِتَابَ النَّاطِقَ بِوَحْدَانِيَّتِهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ، وَبِمَا يَجِبُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَدُعَائِهِ فِي الْمُهِمَّاتِ وَالْمُلِمَّاتِ وَحْدَهُ، وَبِأَنَّ عِبَادَةَ غَيْرِهِ بَاطِلَةٌ، وَأَنَّ دُعَاءَ هَذِهِ الْأَوْثَانِ هُزُؤٌ بَاطِلٌ، وَسُخْفٌ لَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ إِلَّا جَاهِلٌ سَافِلٌ، وَهُوَ يَتَوَلَّى نَصْرَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ صَلُحَتْ أَنْفُسُهُمْ بِالْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ السَّالِمَةِ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ، وَالْأَعْمَالِ الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا الْأَفْرَادُ وَشُئُونُ الْجَمَاعَاتِ، فَيَنْصُرُهُمْ عَلَى الْخُرَافِيِّينَ الْفَاسِدِي الْعَقَائِدِ، وَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَعْمَالِ {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ} (13: 17).
{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} أَيْ: وَأَمَّا الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ لِنَصْرِكُمْ وَلِغَيْرِ النَّصْرِ مِنْ مَنَافِعِكُمْ وَدَفْعِ الضُّرِّ عَنْكُمْ، فَهُمْ عَاجِزُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْصُرُونَكُمْ، وَلَا أَنْ يَنْصُرُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَنْ يُحَقِّرُ أَمْرَهُمْ، أَوْ يَسْلُبُهُمْ شَيْئًا مِمَّا وُضِعَ مِنَ الطِّيبِ أَوِ الْحُلِيِّ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ كَسَّرَ إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم الْأَصْنَامَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا فَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَدْفَعُوهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا أَنْ يَنْتَفِعُوا مِنْهُ لَهَا. وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه وَكَانَا شَابَّيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ أَسْلَمَا لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ أَنَّهُمَا كَانَا يَعْدُوَانِ فِي اللَّيْلِ عَلَى أَصْنَامِ الْمُشْرِكِينَ يَكْسِرَانِهَا وَيَتَّخِذَانِهَا حَطَبًا لِلْأَرَامِلِ لِيَعْتَبِرَ قَوْمُهُمَا بِذَلِكَ، وَكَانَ لِعَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ- وَكَانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ- صَنَمٌ يَعْبُدُهُ فَكَانَا يَجِيئَانِ فِي اللَّيْلِ فَيُنَكِّسَانِهِ عَلَى رَأْسِهِ، وَيُلَطِّخَانِهِ بِالْعُذْرَةِ، فَيَجِيءُ فَيَرَى مَا صُنِعَ بِهِ فَيَغْسِلُهُ وَيُطَيِّبُهُ وَيَضَعُ عِنْدَهُ سَيْفًا وَيَقُولُ لَهُ: انْتَصِرْ. حَتَّى أَخَذَاهُ مَرَّةً فَقَرَنَاهُ مَعَ كَلْبٍ مَيِّتٍ، وَدَلَّيَاهُ بِحَبْلٍ فِي بِئْرٍ. فَلَمَّا رَآهُ كَذَلِكَ عَلِمَ بُطْلَانَ عِبَادَتِهِ وَأَسْلَمَ، فِيهِ يَقُولُ:
تَاللهِ لَوْ كُنْتَ إِلَهًا مُسْتَدَنْ ** لَمْ تَكُ وَالْكَلْبُ جَمِيعًا فِي قَرَنْ

وَبَعْدَ أَنْ نَفَى قُدْرَتَهُمْ عَلَى النَّصْرِ، قَفَّى عَلَيْهِ بِنَفْيِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى الْإِرْشَادِ إِلَيْهِ فَقَالَ: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا} أَيْ: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَهْدُوكُمْ إِلَى مَا تَنْتَصِرُونَ بِهِ مِنْ أَسْبَابٍ خَفِيَّةٍ أَوْ جَلِيَّةٍ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ مُطْلَقًا، فَكَيْفَ يَسْتَجِيبُونَ لَكُمْ؟ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ سَمِعُوا لَمَا اسْتَجَابُوا لِعَجْزِهِمْ عَنِ الْفِعْلِ، كَفَقْدِهِمْ لِلسَّمْعِ، {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} أَيْ: وَهُمْ فَاقِدُونَ لِحَاسَّةِ الْبَصَرِ كَفَقْدِهِمْ لِحَاسَّةِ السَّمْعِ، وَتَرَاهُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطِبُ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ بِمَا وُضِعَ لَهُمْ مِنَ الْأَعْيُنِ الصِّنَاعِيَّةِ، وَالْحَدَقِ الزُّجَاجِيَّةِ أَوِ الْجَوْهَرِيَّةِ، وَجَعْلُهَا مُوَجَّهَةً إِلَى الدَّاخِلِ عَلَيْهَا كَأَنَّهَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْإِبْصَارَ لَا يَحْصُلُ بِالصِّنَاعَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْحَيَاةِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ بِهَا، وَإِذَا كَانُوا لَا يَسْمَعُونَ دُعَاءً وَلَا نِدَاءً مِنْ عَابِدِهِمْ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا يُبْصِرُونَ حَالَهُ وَحَالَ خَصْمِهِ، فَأَنَّى يُرْجَى مِنْهُمْ نَصْرُهُ وَشَدُّ أَزْرِهِ؟.
وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالرَّسُولِ فِي مُقَدِّمَتِهِمْ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَصْنَامِ قَدْ تَمَّ فِيمَا قَبْلَهَا وَعَادَ الْكَلَامُ فِي عَابِدِيهَا، أَيْ: وَإِنْ تَدْعُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ هَؤُلَاءِ الْأَغْبِيَاءَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لَمْ يَعْقِلُوا هَذِهِ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ، إِلَى هُدَى اللهِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْإِسْلَامُ وَلَا يَسْمَعُوا دَعْوَتَكُمْ سَمَاعَ فَهْمٍ وَاعْتِبَارٍ، وَتَرَاهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ مَا أُوتِيتَ مِنْ سَمْتِ الْجَلَالِ وَالْوَقَارِ، الَّذِي يُمَيَّزُ بِهِ صَاحِبُ الْبَصِيرَةِ بَيْنَ أُولِي الْجِدِّ وَالْعَزْمِ، وَالصِّدْقِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْعَبَثِ وَالْهَزْلِ. وَلَقَدْ كَانَ بَعْضُ ذَوِي الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ يَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَعْرِفُ مِنْ شَمَائِلِهِ وَسِيمَاهُ فِي وَجْهِهِ أَنَّهُ حُرٌّ صَادِقٌ، غَيْرُ مُخَادِعٍ وَلَا مُمَاذِقٍ، فَيَقُولُ: وَاللهِ مَا هَذَا الْوَجْهُ وَجْهُ كَاذِبٍ، وَمَا زَالَ مِنَ الْمَعْهُودِ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ أَصْحَابَ الْبَصِيرَةِ وَالْفَضِيلَةِ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْعَهْدِ بِالتَّلَاقِي، بِمَا يَتَوَسَّمُونَ مِنْ مَلَامِحِ الْوَجْهِ وَمَعَارِفِهِ، ثُمَّ مِنْ مَوْضُوعِ الْحَدِيثِ وَتَأْثِيرِهِ فِي نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ وَالسَّامِعِ، ثُمَّ يَكْمُلُ ذَلِكَ بِالْمُعَاشَرَةِ. كَمَا يَعْرِفُونَ حَالَ الْأَشْرَارِ وَالْمُنَافِقِينَ بِذَلِكَ {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} (47: 30) بِهَذِهِ الْبَصِيرَةِ النَّيِّرَةِ عَرَفَتِ السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ فُضْلَى عَقَائِلِ قُرَيْشٍ فَضَائِلَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَبْلَ بَعْثَتِهِ، فَاسْتَمَالَتْهُ وَخَطَبَتْهُ لِنَفْسِهَا عَلَى غِنَاهَا وَفَقْرِهِ، بَعْدَ أَنْ رَفَضَتْ أُنَاسًا مِنْ كُبَرَاءِ قُرَيْشٍ خَطَبُوهَا بَعْدَ مَوْتِ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، ثُمَّ كَانَتْ أَوَّلَ مَنْ جَزَمَ بِرِسَالَتِهِ عِنْدَمَا حَدَّثَهَا بِأَوَّلِ مَا رَآهُ مِنْ بَدْءِ الْوَحْيِ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَوَّلَ رَجُلٍ دَعَاهُ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِحُسْنِ فَرَاسَتِهِ فِيهِ، فَلَمْ يَتَوَقَّفْ وَلَمْ يَتَمَكَّثْ وَلَمْ يَتَرَيَّثْ أَنْ أَجَابَ الدَّعْوَةَ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ قَرِيرَ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَجْدَرَ النَّاسِ بِمَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهَا وَحَقِيقَةِ مَنْ دَعَا إِلَيْهَا. وَأَمْثِلَةُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ. وَكَانَ أَظْهَرُهَا فِي قَرْنِنَا هَذَا تَعَلُّقُ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ عَبْدُهُ بِالسَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ الْأَفْغَانِيِّ مِنْ أَوَّلِ لَيْلَةٍ رَآهُ فِيهَا. وَلِزَامُهُ إِلَى أَنْ فَارَقَ هَذِهِ الدِّيَارَ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ غَيْرُهُ عَلَى كَثْرَةِ الْمُكْبِرِينَ لَهُ وَالْمُعْجَبِينَ بِهِ، وَقَدْ كَانَ الْكَثِيرُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَزْهَرِ يَفِرُّونَ مِنْهُ وَيَصُدُّونَ عَنْهُ، فَأَيْنَ هُمْ وَأَيْنَ آثَارُهُمْ فِي الْعِلْمِ أَوِ الدِّينِ؟ فَبِأَمْثَالِ هَذِهِ الْعِبَرِ الْوَاقِعَةِ تَفْهَمُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} عَلَى الْوَجْهِ الْأَخِيرِ فِي تَفْسِيرِهَا، لَا بِمُجَرَّدِ تَسْمِيَةِ هَذَا التَّعْبِيرِ اسْتِعَارَةً شَبَّهَ فِيهَا كَذَا بِكَذَا. ثُمَّ اقْرَأْ فِي مَعْنَاهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ} (10: 42، 43).